القهر الوظيفي: الموظف بين المطرقة والسندان
القهر الوظيفي:
الموظف بين المطرقة والسندان
في كثير من بيئات العمل، يُتوقع أن تكون العلاقة بين المدير والموظف قائمة على الاحترام والتعاون. لكن للأسف، هناك حالات يختفي فيها هذا المبدأ لتحل محله ممارسات تسلطية من قبل المدير، تاركة الموظف في حالة نفسية مرهقة، وكأنما وقع بين مطرقة الصراخ والإهانة وسندان الالتزامات الوظيفية التي لا يمكنه الهروب منها. هذه الحالة التي يُطلق عليها "القهر الوظيفي" ليست مجرد ضغط عابر، بل هي ظاهرة تؤثر بعمق على نفسية الأفراد وأدائهم الوظيفي.
القهر الوظيفي يتجلى بأشكال عديدة. قد يبدأ بالصراخ العلني الذي يحطم كرامة الموظف أمام زملائه، ثم يتطور إلى التحقير المتكرر الذي يُشعره بعدم القيمة مهما كانت إنجازاته. في بعض الحالات، يتحكم المدير بجميع التفاصيل الدقيقة للعمل، وكأن الموظف دمية بلا عقل، لا يُسمح له بالابتكار أو التعبير عن رأيه. هذه السلوكيات، وإن بدت بسيطة، تحمل آثارًا نفسية وجسدية عميقة على الموظفين.
لكن لماذا يظهر القهر الوظيفي في بيئات العمل؟ في كثير من الأحيان، يكون المدير غير مؤهل للقيادة، فيلجأ إلى التسلط والصراخ لتعويض نقص الخبرة والكفاءة. ومن ناحية أخرى، تُساهم ثقافة العمل السامة التي لا تحترم حقوق الموظفين في تفاقم المشكلة. كما أن غياب سياسات الحوكمة التي تحمي العاملين من سوء المعاملة يُترك الموظف وحيدًا بلا وسيلة للدفاع عن نفسه. الأعباء الاقتصادية تلعب أيضًا دورًا كبيرًا، حيث يُجبر الموظف على تحمل الإهانات بسبب خوفه من فقدان مصدر رزقه في ظل التزامات مالية كبيرة.
القهر الوظيفي لا يؤثر فقط على نفسية الموظف، بل يمتد تأثيره إلى صحته الجسدية وعلاقاته الاجتماعية. الضغط المستمر قد يؤدي إلى إرهاق مزمن، ارتفاع في ضغط الدم، واضطرابات في النوم. علاوة على ذلك، يفقد الموظف دافعه للعمل، مما ينعكس على أدائه ويهدد إنتاجية المؤسسة. الأسوأ من ذلك أن هذه الضغوط قد تمتد إلى حياة الموظف الشخصية، فتُسبب تدهورًا في علاقاته مع العائلة والأصدقاء.
لكن هل يمكن التصدي لهذه الظاهرة؟ بالطبع يمكن ذلك، ولكن
الأمر يتطلب شجاعة وتخطيطًا. الخطوة الأولى هي محاولة التواصل مع المدير بطريقة
هادئة ومحترمة لتوضيح تأثير سلوكياته. إذا لم يُجدِ ذلك نفعًا، يمكن للموظف اللجوء
إلى الإدارة العليا أو قسم الموارد البشرية لرفع شكوى رسمية. وبالتوازي، من المهم
أن يبني الموظف شبكة دعم من زملائه وأصدقائه لتخفيف التوتر. وفي حال كانت الضغوط
تفوق قدرته على التحمل، يمكنه البحث عن فرص مهنية جديدة في بيئات عمل تحترم حقوق
العاملين.
من جهة أخرى، تتحمل المؤسسات مسؤولية كبيرة في الحد من القهر الوظيفي. يجب أن تُوضع سياسات واضحة وصارمة تمنع الإساءة اللفظية والسلوكية للموظفين. كما أن تدريب المديرين على القيادة الإنسانية هو خطوة أساسية لضمان احترام حقوق العاملين. تعزيز ثقافة التقدير داخل المؤسسات من خلال مكافأة الإنجازات والاحتفاء بها، بدلاً من التركيز على الأخطاء فقط، يمكن أن يُحدث تغييرًا إيجابيًا كبيرًا.
القهر الوظيفي ليس قدرًا محتومًا. بإمكاننا جميعًا، سواء
كنا موظفين أو قادة، العمل على بناء بيئات عمل تُشجع على الاحترام والتعاون.
الموظف الذي يشعر بالتقدير يكون أكثر إنتاجية وإبداعًا، والمؤسسة التي تدعم
موظفيها تضمن النجاح على المدى الطويل. في النهاية، لا يمكننا أن نغفل أن أماكن
العمل ليست فقط مكانًا للإنتاج، بل أيضًا مساحة تُشكل جزءًا كبيرًا من حياتنا
اليومية، ومن حق الجميع أن يعيش فيها بكرامة وسلام.
آسيا أبوطوق
تعليقات